فصل: تفسير الآية رقم (41)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ‏}‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو الربيع الزَّهْرَاني، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب وهشام، عن محمد قال‏:‏ قال عثمان بن عفان‏:‏ فينا نزلت‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ‏}‏، فأخرجنا من ديارنا بغير حق، إلا أن قلنا‏:‏ ‏"‏ربنا الله‏"‏، ثم مُكنّا في الأرض، فأقمنا الصلاة، وآتينا الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهينا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور، فهي لي ولأصحابي‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال الصباح بن سوادة الكندي‏:‏ سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ‏}‏ الآية، ثم قال‏:‏ إلا أنها ليست على الوالي وحده، ولكنها على الوالي والمولى عليه، ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذَلكم، وبما للوالي عليكم منه‏؟‏ إن لكم على الوالي من ذلكم أن يؤاخذكم بحقوق الله عليكم، وأن يأخذ لبعضكم من بعض، وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع، وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكرهة، ولا المخالف سرها علانيتها‏.‏

وقال عطية العوفي‏:‏ هذه الآية كقوله‏:‏ ‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ ‏[‏كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏]‏ ‏[‏النور‏:‏ 55‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ‏}‏، كقوله تعالى ‏{‏وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 83‏]‏‏.‏

وقال زيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ‏}‏‏:‏ وعند الله ثواب ما صنعوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42 - 46‏]‏

‏{‏وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ‏}‏

يقول تعالى مسليا نبيَّه محمدا صلى الله عليه وسلم في تكذيب من خالفه من قومه‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏وَكُذِّبَ مُوسَى‏}‏ أي‏:‏ مع ما جاء به من الآيات البينات والدلائل الواضحات‏.‏

‏{‏فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ أنظرتهم وأخرتهم، ‏{‏ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏}‏ أي‏:‏ فكيف كان إنكاري عليهم، ومعاقبتي لهم‏؟‏‏!‏

ذكر بعض السلف أنه كان بين قول فرعون لقومه‏:‏ ‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏، وبين إهلاك الله له أربعون سنة‏.‏

وفي الصحيحين عن أبي موسى، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 102‏]‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا‏}‏ أي‏:‏ كم من قرية أهلكتها ‏{‏وَهِيَ ظَالِمَةٌ‏}‏‏]‏ أي‏:‏ مكذبة لرسولها، ‏{‏فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا‏}‏ قال الضحاك‏:‏ سقوفها، أي‏:‏ قد خربت منازلها وتعطلت حواضرها‏.‏

‏{‏وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ‏}‏ أي‏:‏ لا يستقى منها، ولا يَرِدُها أحد بعد كثرة وارديها والازدحام عليها‏.‏

‏{‏وَقَصْرٍ مَشِيدٍ‏}‏ قال عكرمة‏:‏ يعني المُبَيّض بالجص‏.‏

وروي عن علي بن أبي طالب، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، وأبي المَلِيح، والضحاك، نحو ذلك‏.‏

وقال آخرون‏:‏ هو المُنيف المرتفع‏.‏

وقال آخرون‏:‏ الشديد المنيع الحصين‏.‏

وكل هذه الأقوال متقاربة، ولا منافاة بينها، فإنه لم يَحْمِ أهله شدة بنائه ولا ارتفاعه، ولا إحكامه ولا حصانته، عن حلول بأس الله بهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ بأبدانهم وبفكرهم أيضا، وذلك كاف، كما قال ابن أبي الدنيا في كتاب ‏"‏التفكر والاعتبار‏"‏‏:‏

حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا سَيَّار، حدثنا جعفر، حدثنا مالك بن دينار قال‏:‏ أوحى الله تعالى إلى موسى، عليه السلام، أن يا موسى، اتخذ نعلين من حديد وعصا، ثم سِحْ في الأرض، واطلب الآثار والعبر، حتى تتخرق النعلان وتكسر العصا‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا‏:‏ قال بعض الحكماء‏:‏ أحْيِ قلبك بالمواعظ، ونَوِّره بالفِكْر، ومَوِّته بالزهد، وقَوِّه باليقين، وذَلِّلْهُ بالموت ، وقرِّره بالفناء ، وبَصِّره فجائع الدنيا، وحَذِّره صولةَ الدهر وفحش تَقَلُّب الأيام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكره ما أصاب من كان قبله، وسِرْ في ديارهم وآثارهم، وانظر ما فعلوا، وأين حَلُّوا، وعَمَّ انقلبوا‏.‏

أي‏:‏ فانظروا ما حل بالأمم المكذبة من النقم والنكال ‏{‏فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا‏}‏ أي‏:‏ فيعتبرون بها، ‏{‏فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ‏}‏ أي‏:‏ ليس العمى عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر، ولا تدري ما الخبر‏.‏ وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في هذا المعنى -وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن سارة الأندلسي الشَّنْتَريني، وقد كانت وفاته سنة سبع عشرة وخمسمائة‏:‏

يا مَن يُصيخُ إلى دَاعي الشَقَاء، وقَد *** نَادَى به الناعيَان‏:‏ الشيبُ والكبَر

إن كُنتَ لا تَسْمَع الذكْرَى، ففيم تُرَى *** في رَأسك الوَاعيان‏:‏ السمعُ والبَصَرُ

ليسَ الأصَمّ ولا الأعمَى سوَى رَجُل *** لم يَهْده الهَاديان‏:‏ العَينُ والأثَر

لا الدّهر يَبْقَى وَلا الدنيا، وَلا الفَلَك ال *** أعلى ولا النَّيّران‏:‏ الشَّمْسُ وَالقَمَر

لَيَرْحَلَنّ عَن الدنيا، وَإن كَرِها *** فرَاقها، الثاويان‏:‏ البَدْو والحَضَرُ

تفسير الآيات رقم ‏[‏47 - 48‏]‏

‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ‏}‏

يقول تعالى لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه ‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ‏}‏ أي‏:‏ هؤلاء الكفار الملحدون المكذبون بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر، كما قال ‏[‏الله‏]‏ تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏، ‏{‏وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 16‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ‏}‏ أي‏:‏ الذي قد وَعَد، من إقامة الساعة والانتقام من أعدائه، والإكرام لأوليائه‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ كنت عند أبي عمرو بن العلاء، فجاء عمرو بن عبيد، فقال‏:‏ يا أبا عمرو، وهل يخلف الله الميعاد‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏.‏ فذكر آية وعيد، فقال له‏:‏ أمن العجم أنت‏؟‏ إن العرب تَعدُ الرجوع عن الوعد لؤما، وعن الإيعاد كرما، أومَا سمعتَ قول الشاعر‏:‏

لا يُرْهِبُ ابنَ العم منى سَطْوَتي *** ولا أخْتَتِي من سَطْوة المُتَهَدّد

فإنّي وَإن أوْعَدْتُه أوْ وَعَدْتُه *** لَمُخْلِفُ إيعَادي ومُنْجزُ مَوْعدي

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ‏}‏ أي‏:‏ هو تعالى لا يَعجَل، فإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حكمه، لعلمه بأنه على الانتقام قادر، وأنه لا يفوته شيء، وإن أجَّلَ وأنظَر وأملى؛ ولهذا قال بعد هذا‏:‏ ‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ‏}‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا الحسن بن عَرَفة، حدثني عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو، عن

أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، خمسمائة عام‏"‏‏.‏

ورواه الترمذي والنسائي، من حديث الثوري، عن محمد بن عمرو، به ‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏ وقد رواه ابن جرير، عن أبي هريرة موقوفا، فقال‏:‏

حدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّةَ، حدثنا سعيد الجُرَيري، عن أبي نَضْرَة، عن سُمَيْر بن نهار قال‏:‏ قال أبو هريرة‏:‏ يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم‏.‏ قلت‏:‏ وما نصف يوم‏؟‏ قال‏:‏ أوَما تقرأ القرآن‏؟‏‏.‏ قلت‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ‏}‏‏.‏

وقال أبو داود في آخر كتاب الملاحم من سننه‏:‏ حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان، عن شُرَيح بن عُبَيد، عن سعد بن أبي وَقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إني لأرجو ألا تَعْجِزَ أمتي عند ربها، أن يؤخرهم نصف يوم‏"‏‏.‏ قيل لسعد‏:‏ وما نصف يوم‏؟‏ قال‏:‏ خمسمائة سنة‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أحمد بن سنَان، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيّ، عن إسرائيل، عن سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ‏}‏ قال‏:‏ من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض‏.‏

رواه ابن جرير، عن ابن بَشّار ، عن ابن مهدي‏.‏ وبه قال مجاهد، وعكرمة، ونص عليه أحمد بن حنبل في كتاب ‏"‏الردّ على الجهمية‏"‏‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ هذه الآية كقوله‏:‏ ‏{‏يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عارم -محمد بن الفضل- حدثنا حماد بن زيد، عن يحيى بن عَتِيق، عن محمد بن سيرين، عن رجل من أهل الكتاب أسلمَ قال‏:‏ إن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، ‏{‏وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ‏}‏ وجعل أجل الدنيا ستة أيام، وجعل الساعة في اليوم السابع، ‏{‏وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ‏}‏، فقد مضت الستة الأيام، وأنتم في اليوم السابع‏.‏ فمثل ذلك كمثل الحامل إذا دخلت شهرها، في أية لحظة ولدت كان تماما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49 - 51‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ‏}‏‏.‏

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حين طلب منه الكفار وُقُوعَ العذاب، واستعجلوه به‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ‏}‏ أي‏:‏ إنما أرسلني الله إليكم نذيرًا لكم بين يدي عذاب شديد، وليس إلي من حسابكم من شيء، أمركم إلى الله، إن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء أخره عنكم، وإن شاء تاب على من يتوب إليه، وإن شاء أضل من كتب عليه الشقاوة، وهو الفعال لما يشاء ويريد ويختار، ‏[‏و‏]‏ ‏{‏لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 41‏]‏ و‏{‏إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ‏.‏ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ أي‏:‏ آمنت قلوبهم وصدقوا إيمانهم بأعمالهم، ‏{‏لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ مغفرة لما سلف من سيئاتهم، ومجازاة حَسَنةٌ على القليل من حسناتهم‏.‏

‏[‏و‏]‏ قال محمد بن كعب القُرَظِيّ‏:‏ إذا سمعتَ الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ فهو الجنة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ‏}‏‏:‏ قال مجاهد‏:‏ يُثَبّطون الناس عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكذا قال عبد الله بن الزبير‏:‏ مثبطين‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏مُعَاجِزِينَ‏}‏‏:‏ مراغمين‏.‏

‏{‏أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ‏}‏‏:‏ وهي النار الحارة الموجعة الشديد عذابها ونكالها، أجارنا الله منها‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 88‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52 - 54‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏‏.‏

قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغَرَانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة، ظَنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا‏.‏ ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم‏.‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة، عن أبي بِشْر، عن سعيد بن جُبَيْر، قال‏:‏ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ‏"‏النجم‏"‏ فلما بلغ هذا الموضع‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى‏.‏ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى‏}‏ قال‏:‏ فألقى الشيطان على لسانه‏:‏ ‏"‏تلك الغَرَانيق العلى‏.‏ وإن شفاعتهن ترتجى‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ ما ذكر آلهَتنا بخير قبل اليوم‏.‏ فسجَدَ وسجدوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ‏[‏فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏]‏ رواه ابن جرير، عن بُنْدَار، عن غُنْدَر، عن شعبة، به نحوه ، وهو مرسل، وقد رواه البزار في مسنده، عن يوسف بن حماد، عن أمية بن خالد، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -فيما أحسب، الشك في الحديث- أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بمكة سورة ‏"‏النجم‏"‏، حتى انتهى إلى‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى‏}‏، وذكر بقيته‏.‏ ثم قال البزار‏:‏ لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد، تفرد بوصله أمية بن خالد، وهو ثقة مشهور‏.‏ وإنما يُروى هذا من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس‏.‏

ثم رواه ابن أبي حاتم، عن أبي العالية، وعن السدي، مرسلا‏.‏ وكذا رواه ابن جرير، عن محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس، مرسلا أيضا‏.‏

وقال قتادة‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم ‏[‏يصلي‏]‏ عند المقام إذ نَعَس، فألقى الشيطان على لسانه ‏"‏وإن شفاعتها لترتجى‏.‏ وإنها لمع الغرانيق العلى‏"‏، فحفظها المشركون‏.‏ وأجرى الشيطان أن نبي الله قد قرأها، فزَلَّت بها ألسنتهم، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ‏[‏وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى‏]‏ الآية، فدَحَرَ الله الشيطان‏.‏

ثم قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي، حدثنا محمد بن إسحاق المُسَيَّبِي، حدثنا محمد بن فُلَيْح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال‏:‏ أنزلت سورة النجم، وكان المشركون يقولون‏:‏ لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه، ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم، وأحزنه ضلالهم، فكان يتمنى هُداهم، فلما أنزل الله سورة ‏"‏النجم‏"‏ قال‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى‏.‏ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى‏.‏ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى‏}‏ ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت، فقال‏:‏ ‏"‏وإنهن لهن الغرانيق العلى‏.‏ وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى ‏"‏‏.‏ وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة، وزلت بها ألسنتهم، وتباشروا بها، وقالوا‏:‏ إن محمدا، قد رجع إلى دينه الأول، ودين قومه‏.‏ فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏[‏آخر النجم‏]‏ ، سجد وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك‏.‏ غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا، فرفع على كفه ترابا فسجد عليه‏.‏ فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود، لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين -ولم يكن المسلمون سمعوا الآية التي ألقى الشيطان في مسامع المشركين- فاطمأنت أنفسهم لما ألقى الشيطانُ في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدثهم به الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها في السورة، فسجدوا لتعظيم آلهتهم‏.‏ ففشت تلك الكلمة في الناس، وأظهرها الشيطان، حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين، عثمان بن مظعون وأصحابه، وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، وصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه، وحُدِّثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة فأقبلوا سراعا وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته، وحفظه من الفرية، وقال ‏[‏تعالى‏]‏ ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ‏}‏، فلما بين الله قضاءه، وبرأه من سجع الشيطان، انقلب المشركون بضلالهم وعداوتهم المسلمين، واشتدوا عليهم‏.‏ وهذا أيضًا مرسل‏.‏

وفي تفسير ابن جرير عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، نحوه ‏.‏ وقد رواه الإمام أبو بكر البيهقي في كتابه ‏"‏دلائل النبوة‏"‏ فلم يَجُزْ به موسى بن عقبة، ساقه في مغازيه بنحوه، قال‏:‏ وقد روينا عن ابن إسحاق هذه القصة‏.‏

قلت‏:‏ وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا، وكلها مرسلات ومنقطعات، فالله أعلم‏.‏ وقد ساقها البغوي في تفسيره مجموعة من كلام ابن عباس، ومحمد بن كعب القُرَظِيّ، وغيرهما بنحو من ذلك، ثم سأل هاهنا سؤالا كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه‏؟‏ ثم حكى أجوبة عن الناس، من ألطفها‏:‏ أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك، فتوهموا أنه صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كذلك في نفس الأمر، بل إنماكان من صنيع الشيطان لا من رسول الرحمن صلى الله عليه وسلم، والله أعلم‏.‏

وهكذا تنوعت أجوبة المتكلمين عن هذا بتقدير صحته‏.‏ وقد تعرض القاضي عياض، رحمه الله، في كتاب ‏"‏الشفاء‏"‏ لهذا، وأجاب بما حاصله‏.‏

‏"‏فاعلم، أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين‏:‏ أحدهما‏:‏ في توهين أصله‏.‏ والثانى‏:‏ على تسليمه‏.‏

أما المأخذ الأول‏:‏ فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل‏.‏‏.‏ وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم‏.‏

وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال‏:‏ لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته، فقائل يقول‏:‏ إنه فى الصلاة، وآخر يقول‏:‏ قالها في نادي قومه حين أنزلت عليه السورة، وآخر يقول‏:‏ قالها وقد أصابته سنة، وآخر بقول‏:‏ بل حدث نفسه فسها، وآخر يقول‏:‏ إن الشيطان قالها على لسانه وإن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرضها على جبريل قال‏:‏ ما هكذا أقرأتك، وآخر يقول‏:‏ بل أعلمهم الشيطان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأها فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال‏:‏ ‏"‏والله ما هكذا أنزلت‏"‏‏.‏ إلى غير ذلك من اختلاف الرواة‏.‏

ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية‏.‏

والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال‏:‏ فيما أحسب -الشك في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان بمكة وذكر القصة‏.‏

قال أبو بكر البزار‏:‏ هذا لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير، وإنما يعرف عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس‏.‏

فقد بين لك أبو بكر، رحمه الله، أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبه عليه مع وقوع الشك فيه كما ذكرناه الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه‏.‏

أما حديث الكلبي فمما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البزار، رحمه الله‏.‏

والذي منه في الصحيح‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ ‏"‏والنجم‏"‏ وهو بمكة فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس هذا توهينه من طريق النقل‏.‏

أما من جهة المعنى، فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم، ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة، إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله وهو كفر أو يتسور عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرأن ما ليس منه حتى ينبهه جبريل - عليه السلام-، وذلك كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم‏.‏

أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمدا وذلك كفر، أو سهوا وهو معصوم من هذا كله‏.‏

ووجه ثان‏:‏ هو استحالة هذه القصة نظرا وعرفا، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روى لكان بعيد الالتئام، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف والنظم، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك‏.‏

وهذا لا يخفى على أدنى متأمل فكيف بمن رجح حلمه، واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه‏!‏‏!‏

ووجه ثالث‏:‏ أنه قد علم من عادة المنافقين، ومعاندي المشركين، وضعفة القلوب، والجهلة من المسلمين، نفورهم لأول وهلة، وتخليط العدو على النبي صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة، وتعيرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة ولم يحك أحد في هذه القصة شيئا سوى هذه الرواية الضعيفة‏.‏

ووجه رابع‏:‏ ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت ‏"‏ وإن كادوا ليفتنونك‏.‏‏.‏ ‏"‏ الآيتين‏.‏

وهاتان الآيتان تردان الخبر الذي رووه؛ لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه، حتى يفتري وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم‏.‏

فمضمون هذا ومفهومه‏:‏ أن الله تعالى عصمه من أن يفتري، وثبته حتى لم يركن اليهم قليلا فكيف كثيرا وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم وأنه قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ افتريت على الله وقلت ما لم يقل وهذا ضد مفهوم الآية وهي تضعف الحديث لو صح، فكيف ولا صحة له، وهذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏"‏ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء‏"‏‏.‏

وأما المأخذ الثاني‏:‏ فهو مبني على تسليم الحديث لو صح‏.‏ وقد أعاذنا الله من صحته، ولكن على كل حال فقد أجاب عن ذلك أئمة المسلمين بأجوبة منها الغث والسمين‏.‏

ثم ذكر الأجوبة على ذلك ‏(‏2/111-114‏)‏‏}‏ وممن أنكرها الإمام ابن خزيمة وقال‏:‏ ‏"‏هذا من وضع الزنادقة‏"‏ وهذا هو الصواب‏.‏

للاستزادة‏:‏ انظر‏:‏ الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير ص-314 لمحمد أبي شهبة، ونصب المجانيق لإبطال قصة الغرانيق لمحمد ناصر الدين الألباني‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ‏}‏، هذا فيه تسلية له، صلوات الله وسلامه عليه، أي‏:‏ لا يَهيدنّك ذلك، فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء‏.‏

قال البخاري‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏فِي أُمْنِيَّتِهِ‏}‏ إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته‏.‏

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِذَا تَمَنَّى ‏[‏أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ‏}‏، يقول‏:‏ إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏إِذَا تَمَنَّى‏}‏‏]‏ يعني‏:‏ إذا قال‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏أُمْنِيَّتِهِ‏}‏‏:‏ قراءته، ‏{‏إِلا أَمَانِيَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 78‏]‏، يقولون ولا يكتبون‏.‏

قال البغوي‏:‏ وأكثر المفسرين قالوا‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏{‏تَمَنَّى‏}‏ أي‏:‏ تلا وقرأ كتاب الله، ‏{‏أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ‏}‏ أي‏:‏ في تلاوته، قال الشاعر في عثمان حين قتل‏:‏

تَمَنّى كتَابَ الله أوّل لَيْلة *** وآخرَها لاقَى حمَامَ المَقَادر

وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏إِذَا تَمَنَّى‏}‏‏:‏ إذا تلا‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ هذا القول أشبه بتأويل الكلام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ‏}‏، حقيقة النسخ لغة‏:‏ الإزالة والرفع‏.‏

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ أي فيبطل الله -سبحانه وتعالى- ما ألقى الشيطان‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ عَلِيمٌ‏}‏، ‏[‏أي‏:‏ بما يكون من الأمور والحوادث، لا تخفى عليه خافية‏]‏، ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ في تقديره وخلقه وأمره، له الحكمة التامة والحجة البالغة؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏ أي‏:‏ شك وشرك وكفر ونفاق، كالمشركين حين فرحوا بذلك، واعتقدوا أنه صحيح، وإنما كان من الشيطان‏.‏

قال ابن جريج‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏ هم‏:‏ المنافقون ‏{‏وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ‏}‏‏:‏ المشركون‏.‏

وقال مقاتل بن حيان‏:‏ هم ‏[‏الكافرون‏]‏ اليهود‏.‏

‏{‏وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ‏}‏ أي‏:‏ في ضلال ومخالفة وعناد بعيد، أي‏:‏ من الحق والصواب‏.‏

‏{‏وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ‏}‏ أي‏:‏ وليعلم الذين أوتوا العلم النافع الذي يفرقون به بين الحق والباطل، المؤمنون بالله ورسوله، أن ما أوحيناه إليك هو الحق من ربك، الذي أنزله بعلمه وحفظه وحرسه أن يختلط به غيره، بل هو كتاب حكيم، ‏{‏لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 42‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَيُؤْمِنُوا بِهِ‏}‏ أي‏:‏ يصدقوه وينقادوا له، ‏{‏فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ تخضع وتذل، ‏{‏وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه، ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه، وفي الآخرة يهديهم ‏[‏إلى‏]‏ الصراط المستقيم، الموصل إلى درجات الجنات، ويزحزحهم عن العذاب الأليم والدركات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55 - 57‏]‏

‏{‏وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن الكفار‏:‏ أنهم لا يزالون في مرية، أي‏:‏ في شك وريب من هذا القرآن، قاله ابن جريج، واختاره ابن جرير‏.‏

وقال سعيد بن جبير، وابن زيد‏:‏ ‏{‏مِنْهُ‏}‏ أي‏:‏ مما ألقى الشيطان‏.‏

‏{‏حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً‏}‏‏:‏ قال مجاهد‏:‏ فجأة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏بَغْتَةً‏}‏، بغت ‏[‏القوم‏]‏ أمر الله، وما أخذ الله قومًا قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ‏}‏‏:‏ قال مجاهد‏:‏ قال أبي بن كعب‏:‏ هو يوم بدر، وكذا قال عكرمة، وسعيد بن جبير، وقتادة وغير واحد‏.‏ واختاره ابن جرير‏.‏

وقال عكرمة، ومجاهد ‏[‏في رواية عنهما‏]‏‏:‏ هو يوم القيامة لا ليلة له‏.‏ وكذا قال الضحاك، والحسن البصري‏.‏

وهذا القول هو الصحيح، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به، لكن هذا هو المراد؛ ولهذا

قال‏:‏ ‏{‏الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ‏}‏، كقوله ‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 4‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 26‏]‏‏.‏

‏{‏فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏، أي‏:‏ آمنت قلوبهم، وصدقوا بالله ورسوله، وعملوا بمقتضى ما علموا، وتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم‏.‏

‏{‏فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ‏}‏‏.‏ أي‏:‏ لهم النعيم المقيم، الذي لا يحول ولا يزول ولا يبيد‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا‏}‏ أي‏:‏ كفرت قلوبهم بالحق، وجحدوا به وكذبوا به، وخالفوا الرسل، واستكبروا عن اتباعهم ‏{‏فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ‏}‏ أي‏:‏ مقابلة استكبارهم وإعراضهم عن الحق، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ أي‏:‏ صاغرين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58 - 60‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ‏}‏

يخبر تعالى عمن خرج مهاجرًا في سبيل الله ابتغاء مرضاته، وطلبا لما عنده، وترك الأوطان والأهلين والخِلان، وفارق بلاده في الله ورسوله، ونصرة لدين الله ‏{‏ثُمَّ قُتِلُوا‏}‏ أي‏:‏ في الجهاد ‏{‏أَوْ مَاتُوا‏}‏ أي‏:‏ حتف أنفهم، أي‏:‏ من غير قتال على فرشهم، فقد حصلوا على الأجر الجزيل، والثناء الجميل، كما قال تعالى ‏{‏وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 100‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا‏}‏ أي‏:‏ ليُجْريَن عليهم من فضله ورزقه من الجنة ما تقر به أعينهم، ‏{‏وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ‏.‏ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ‏}‏ أي‏:‏ الجنة‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ‏.‏ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 88، 89‏]‏ فأخبر أنه يحصل له الراحة والرزق وجنة نعيم، كما قال هاهنا‏:‏ ‏{‏لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ بمن يهاجر ويجاهد في سبيله، وبمن يستحق ذلك، ‏{‏حَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب ويكفرها عنهم بهجرتهم إليه، وتوكلهم عليه‏.‏ فأما من قتل في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر، فإنه حي عند ربه يرزق، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 169‏]‏، والأحاديث في هذا كثيرة، كما تقدم وأما من تُوُفيفي سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر، فقد تضمنت هذه الآية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة إجراء الرزق عليه، وعظيم إحسان الله إليه‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا المسيَّب بن واضح، حدثنا ابن المبارك، عن عبد الرحمن بن شُرَيْح، عن ابن الحارث -يعني‏:‏ عبد الكريم- عن ابن عقبة -يعني‏:‏ أبا عبيدة بن عقبة- قال‏:‏ حدثنا شُرَحْبِيل بن السِّمْط‏:‏ طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم، فمر بي سلمان- يعني‏:‏ الفارسي- رضي الله عنه، فقال‏:‏ إني سمعت رسول الله يقول‏:‏ ‏"‏من مات مرابطًا، أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر، وأجرى عليه الرزق، وأمن من الفَتَّانين‏"‏ واقرءوا إن شئتم‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ‏}‏ وقال أيضا‏:‏ حدثنا أبو زرعة، حدثنا زيد بن بشر، أخبرني همام، أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المعافري يقولان‏:‏ كنا برودس، ومعنا فَضَالة بن عبيد الأنصاري -صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم- فمر بجنازتين، إحداهما قتيل والأخرى متوفى، فمال الناس على القتيل، فقال فضالة‏:‏ ما لي أرى الناس مالوا مع هذا، وتركوا هذا‏؟‏‏!‏ فقالوا‏:‏ هذا قتيل في سبيل الله تعالى‏.‏ فقال‏:‏ والله ما أبالي من أي حُفرتيهما بُعثت، اسمعوا كتاب الله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا ‏[‏لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ‏]‏ وقال أيضا‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عبدة بن سليمان، أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا ابن لَهِيعة، حدثنا سلامان بن عامر الشعباني، أن عبد الرحمن بن جَحْدَم الخولاني حدثه‏:‏ أنه حضر فضالة بن عبيد في البحر مع جنازتين، أحدهما أصيب بمنجنيق والآخر توفي، فجلس فضالة بن عبيد عند قبر المتوفى، فقيل له‏:‏ تركت الشهيد فلم تجلس عنده‏؟‏ فقال‏:‏ ما أبالي من أي حفرتيهما بعثتُ، إن الله يقول‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا ‏[‏لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ‏.‏ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا‏]‏ يَرْضَوْنَهُ‏}‏ فما تبتغي أيها العبد إذا أدخلت مدخلا ترضاه ورزقت رزقًا حسنًا، والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت‏.‏

ورواه ابن جرير، عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن شُرَيْح، عن سلامان بن عامر قال‏:‏ كان فضالة برودس أميرًا على الأرباع، فخرج بجنازتي رجلين، أحدهما قتيل والآخر متوفى‏.‏‏.‏‏.‏ فذكر نحو ما تقدم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ‏}‏، ذكر مقاتل بن حيان وابن جريج أنها نزلت في سرية من الصحابة، لقوا جمعًا من المشركين في شهر محرم، فناشدهم المسلمون لئلا يقاتلوهم في الشهر الحرام، فأبى المشركون إلا قتالهم وبغوا عليهم، فقاتلهم المسلمون، فنصرهم الله عليهم، ‏[‏و‏]‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61 - 62‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ‏}‏

يقول تعالى منبها على أنه الخالق المتصرف في خلقه بما يشاء، كما قال‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏.‏ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ‏[‏وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏]‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 26، 27‏]‏ ومعنى إيلاجه الليل في النهار، والنهار في الليل‏:‏ إدخاله من هذا في هذا، ومن هذا في هذا، فتارة يطول الليل ويقصر النهار، كما في الشتاء، وتارة يطول النهار ويقصر الليل، كما في الصيف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ سميع بأقوال عباده، بصير بهم، لا يخفى عليه منهم خافية في أحوالهم وحركاتهم وسكناتهم‏.‏

ولما بين أنه المتصرف في الوجود، الحاكم الذي لا معقب لحكمه، قال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ‏}‏ أي‏:‏ الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له؛ لأنه ذو السلطان العظيم، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وكل شيء فقير إليه، ذليل لديه، ‏{‏وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ‏}‏ أي‏:‏ من الأصنام والأنداد والأوثان، وكل ما عبد من دونه تعالى فهو باطل؛ لأنه لا يملك ضرًا ولا نفعًا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ‏}‏، كما قال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 9‏]‏ فكل شيء تحت قهره وسلطانه وعظمته، لا إله إلا هو، ولا رب سواه؛ لأنه العظيم الذي لا أعظم منه، العلي الذي لا أعلى منه، الكبير الذي لا أكبر منه، تعالى وتقدس وتنزه، وعز وجل عما يقول الظالمون ‏[‏المعتدون‏]‏ علوا كبيرا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63 - 66‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ‏}‏

وهذا أيضا من الدلالة على قدرته وعظيم سلطانه، فإنه يرسل الرياح، فتثير سحابا، فيمطر على الأرض الجُرُز التي لا نبات فيها، وهي هامدة يابسة سوداء قحلة، ‏{‏فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً‏}‏، الفاء هاهنا للتعقيب، وتعقيب كل شيء بحسبه، كما قال‏:‏ ‏{‏خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 14‏]‏، وقد ثبت في الصحيحين‏:‏ ‏"‏أن بين كل شيئين أربعين يوما‏"‏ ومع هذا هو معقب بالفاء، وهكذا هاهنا قال‏:‏ ‏{‏فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً‏}‏ أي‏:‏ خضراء بعد يبسها ومُحُولها‏.‏

وقد ذكر عن بعض أهل الحجاز‏:‏ أنها تصبح عقب المطر خضراء، فالله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ عليم بما في أرجاء الأرض وأقطارها وأجزائها من الحب وإن صغر، لا يخفى عليه خافية، فيوصل إلى كل منه قسطه من الماء فينبته به، كما قال لقمان‏:‏ ‏{‏يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 16‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 25‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏، وقال ‏{‏وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ‏}‏ الآية ‏[‏يونس‏:‏ 61‏]‏؛ ولهذا قال أمية بن ‏[‏أبي‏]‏ الصلت- أو‏:‏ زيد بن عمرو بن نُفيل- في قصيدته‏:‏

وَقُولا لَه‏:‏ مَن يُنْبِتُ الحبَّ في الثَّرَى *** فَيُصبحَ منْهُ البَقْلُ يَهْتَزُّ رَابيَا?

ويُخْرجُ منْهُ حَبَّه في رُؤُوسه *** فَفي ذَاك آيات لمَنْ كَانَ وَاعيا

وقوله‏:‏ ‏{‏لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ‏}‏ أي‏:‏ ملكه جميع الأشياء، وهو غني عما سواه، وكل شيء فقير إليه، عبد لديه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ من حيوان، وجماد، وزروع، وثمار‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 13‏]‏ أي‏:‏ من إحسانه وفضله وامتنانه، ‏{‏وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ‏}‏ أي‏:‏ بتسخيره وتسييره، أي‏:‏ في البحر العَجَاج، وتلاطم الأمواج، تجري الفلك بأهلها بريح طيبة، ورفق وتؤدة، فيحملون فيها ما شاءوا من تجائر وبضائع ومنافع، من بلد إلى بلد، وقطر إلى قطر، ويأتون بما عند أولئك إلى هؤلاء، كما ذهبوا بما عند هؤلاء إلى أولئك، مما يحتاجون إليه، ويطلبونه ويريدونه، ‏{‏وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ‏}‏ أي‏:‏ لو شاء لأذن للسماء فسقطت على الأرض، فهلك من فيها، ولكن من لطفه ورحمته وقدرته يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ مع ظلمهم، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 28‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 26‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 11‏]‏ ومعنى الكلام‏:‏ كيف تجعلون ‏[‏مع‏]‏ الله أندادا وتعبدون معه غيره، وهو المستقل بالخلق والرزق والتصرف، ‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ‏}‏ أي‏:‏ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئًا يذكر، فأوجدكم ‏{‏ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة، ‏{‏إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ‏}‏ أي‏:‏ جحود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67 - 69‏]‏

‏{‏لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏}‏

يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم منسكا‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ يعني‏:‏ لكل أمة نبي منسكا‏.‏ قال‏:‏ وأصل المنسك في كلام العرب‏:‏ هو الموضع الذي يعتاده الإنسان، ويتردد إليه، إما لخير أو شر‏.‏ قال‏:‏ ولهذا سميت مناسك الحج بذلك، لترداد الناس إليها وعكوفهم عليها‏.‏

فإن كان كما قال من أن المراد‏:‏ ‏{‏لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا‏}‏ فيكون المراد بقوله‏:‏ ‏{‏فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ‏}‏ أي‏:‏ هؤلاء المشركون‏.‏ وإن كان المراد‏:‏ ‏"‏لكل أمة جعلنا منسكا جعلا قدريا -كما قال‏:‏ ‏{‏وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 148‏]‏ ولهذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏هُمْ نَاسِكُوهُ‏}‏ أي‏:‏ فاعلوه- فالضمير هاهنا عائد على هؤلاء الذين لهم مناسك وطرائق، أي‏:‏ هؤلاء إنما يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته، فلا تتأثر بمنازعتهم لك، ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ طريق واضح مستقيم موصل إلى المقصود‏.‏

وهذه كقوله‏:‏ ‏{‏وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 87‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ تهديد شديد، ووعيد أكيد، كقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 8‏]‏؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏اللَّهُ‏}‏ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏}‏

وهذه كقوله‏:‏ ‏{‏فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 15‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ‏}‏

يخبر تعالى عن كمال علمه بخلقه، وأنه محيط بما في السموات وما في الأرض، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها، وكتب ذلك في كتابه اللوح المحفوظ، كما ثبت في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله قدّر مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء‏"‏‏.‏

وفي السنن، من حديث جماعة من الصحابة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أول ما خلق الله القلم، قال له‏:‏ اكتب، قال‏:‏ وما أكتب‏؟‏ قال‏:‏ اكتب ما هو كائن‏.‏ فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة‏"‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا ابن بُكَيْر، حدثني ابن لَهِيعة، حدثني عطاء بن دينار، حدثني سعيد بن جُبَيْر قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ خلق الله اللوح المحفوظ مَسِيرَة مائة عام، وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق -وهو على العرش تبارك وتعالى-‏:‏ اكتب‏.‏ قال القلم‏:‏ وما أكتب‏؟‏ قال‏:‏ علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة‏.‏ فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة‏.‏ فذلك قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ‏}‏

وهذا من تمام علمه تعالى أنه علم الأشياء قبل كونها، وقدرها وكتبها أيضًا، فما العباد عاملون قد علمه تعالى قبل ذلك، على الوجه الذي يفعلونه، فيعلم قبل الخلق أن هذا يطيع باختياره، وهذا يعصي باختياره، وكتب ذلك عنده، وأحاط بكل شيء علما، وهو سهل عليه، يسير لديه؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71 - 72‏]‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏

يقول تعالى مخبرا عن المشركين فيما جهلوا وكفروا، وعبدوا من دون الله ما لم ينزل به سلطانا، يعني‏:‏ حجة وبرهانا، كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 117‏]‏‏.‏ ولهذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ أي‏:‏ ولا علم لهم فيما اختلقوه وائتفكوه، وإنما هو أمر تلقوه عن آبائهم وأسلافهم، بلا دليل ولا حجة، وأصله مما سول لهم الشيطان وزينه لهم؛ ولهذا توعدهم تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ‏}‏ أي‏:‏ من ناصر ينصرهم من الله، فيما يحل بهم من العذاب والنكال‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ‏}‏ أي‏:‏ وإذا ذكرت لهم آيات القرآن والحجج والدلائل الواضحات على توحيد الله، وأنه لا إله إلا هو، وأن رسله الكرام حق وصدق، ‏{‏يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا‏}‏ أي‏:‏ يكادون يبادرون الذين يحتجون عليهم بالدلائل الصحيحة من القرآن، ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء‏!‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ أي‏:‏ يا محمد لهؤلاء‏.‏ ‏{‏أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي‏:‏ النار وعذابها ونكالها أشد وأشق وأطم وأعظم مما تخوفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا، وعذاب الآخرة على صنيعكم هذا أعظم مما تنالون منهم، إن نلتم بزعمكم وإرادتكم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏ أي‏:‏ وبئس النار منزلا ومقيلا ومرجعا وموئلا ومقاما، ‏{‏إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 66‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73 - 74‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏

يقول تعالى منبها على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ‏}‏ أي‏:‏ لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به، ‏{‏فَاسْتَمِعُوا لَهُ‏}‏ أي‏:‏ أنصتوا وتفهموا، ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ‏}‏ أي‏:‏ لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك‏.‏ كما قال الإمام أحمد‏.‏

حدثنا أسود بن عامر، حدثنا شَرِيك، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زُرْعة، عن أبي هريرة -رفع الحديث- قال‏:‏ ‏"‏ومن أظلم ممن خلق ‏[‏خلقا‏]‏ كخلقي‏؟‏ فليخلقوا مثل خلقي ذَرّة، أو ذبابة، أو حَبَّة‏"‏‏.‏

وأخرجه صاحبا الصحيح، من طريق عُمَارة، عن أبي زُرْعةَ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ قال الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي‏؟‏ فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة‏"‏‏.‏

ثم قال تعالى أيضا‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ‏}‏ أي‏:‏ هم عاجزون عن خلق ذباب واحد، بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والانتصار منه، لو سلبها شيئًا من الذي عليها من الطيب، ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك‏.‏ هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها ولهذا ‏[‏قال‏:‏ ‏{‏ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ‏}‏‏]‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ الطالب‏:‏ الصنم، والمطلوب‏:‏ الذباب‏.‏ واختاره ابن جرير، وهو ظاهر السياق‏.‏ وقال السدي وغيره‏:‏ الطالب‏:‏ العابد، والمطلوب‏:‏ الصنم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ أي‏:‏ ما عرفوا قدر الله وعظمته حين عبدوا معه غيره، من هذه التي لا تقاوم الذباب لضعفها وعجزها، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏ أي‏:‏ هو القوي الذي بقدرته وقوته خلق كل شيء، ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏، ‏{‏إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ‏.‏ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 12، 13‏]‏، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 58‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عَزِيزٌ‏}‏ أي‏:‏ قد عز كل شيء فقهره وغلبه، فلا يمانع ولا يغالب، لعظمته وسلطانه، وهو الواحد القهار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75 - 76‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ‏}‏

يخبر تعالى أنه يختار من الملائكة رسلا فيما يشاء من شرعه وقَدَره، ومن الناس لإبلاغ رسالاته، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ سميع لأقوال عباده، بصير بهم، عليم بمن يستحق ذلك منهم، كما قال‏:‏ ‏{‏اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ‏}‏ أي‏:‏ يعلم ما يفعل برسله فيما

أرسلهم به، فلا يخفى عليه من أمورهم شيء، كما قال‏:‏ ‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا‏.‏ إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ‏[‏فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا‏.‏ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ‏]‏ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 26 -28‏]‏، فهو سبحانه رقيب عليهم، شهيد على ما يقال لهم، حافظ لهم، ناصر لجنابهم؛ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77 - 78‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ‏}‏

اختلف الأئمة، رحمهم الله، في هذه السجدة الثانية من سورة الحج‏:‏ هل هي مشروع السجودُ فيها أم لا‏؟‏ على قولين‏.‏ وقد قدمنا عند الأولى حديث عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فُضلت سورة الحج بسجدتين، فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ‏}‏ أي‏:‏ بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ اجْتَبَاكُمْ‏}‏ أي‏:‏ يا هذه الأمة، الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم، وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول، وأكمل شرع‏.‏

‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ أي‏:‏ ما كلفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء فَشَقَ عليكم إلا جعل الله لكم فرجا ومخرجا، فالصلاة -التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين- تجب في الحَضَر أربعًا وفي السفر تُقْصَر إلى ثِنْتَين، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة، كما ورد به الحديث، وتُصَلى رجالا وركبانا، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها‏.‏ وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها، والقيام فيها يسقط بعذر المرض، فيصليها المريض جالسا، فإن لم يستطع فعلى جنبه، إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات، في سائر الفرائض والواجبات؛ ولهذا قال، عليه السلام ‏:‏ ‏"‏بُعِثْتُ بالحنِيفيَّة السَّمحة‏"‏ وقال لمعاذ وأبي موسى، حين بعثهما أميرَين إلى اليمن‏:‏ ‏"‏بَشِّرا ولا تنفرا، ويَسِّرا ولا تُعسِّرَا‏"‏‏.‏ والأحاديث في هذا كثيرة؛ ولهذا قال ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ يعني‏:‏ من ضيق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ‏}‏‏:‏ قال ابن جرير‏:‏ نصب على تقدير‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ أي‏:‏ من ضيق، بل وَسَّعه عليكم كملة أبيكم إبراهيم‏.‏ ‏[‏قال‏:‏ ويحتمل أنه منصوب على تقدير‏:‏ الزموا ملة أبيكم إبراهيم‏]‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا المعنى في هذه الآية كقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 161‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا‏}‏ قال الإمام عبد الله بن المبارك، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ‏}‏ قال‏:‏ الله عز وجل‏.‏ وكذا قال مجاهد، وعطاء، والضحاك، والسدي، وقتادة، ومقاتل بن حَيَّان‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ‏}‏ يعني‏:‏ إبراهيم، وذلك لقوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكََ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 128‏]‏‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وهذا لا وجه له؛ لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسمّ هذه الأمة في القرآن مسلمين، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة وفي الذكر، ‏{‏وَفِي هَذَا‏}‏ يعني‏:‏ القرآن‏.‏ وكذا قال غيره‏.‏

قلت‏:‏ وهذا هو الصواب؛ لأنه تعالى قال‏:‏ ‏{‏هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏، ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، بأنه ملة أبيهم إبراهيم الخليل، ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نَوّه به من ذكرها والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان، في كتب الأنبياء، يتلى على الأحبار والرهبان، فقال‏:‏ ‏{‏هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ من قبل هذا القرآن ‏{‏وَفِي هَذَا‏}‏، وقد قال النسائي عند تفسير هذه الآية‏:‏

أنبأنا هشام بن عمار، حدثنا محمد بن شُعَيب، أنبأنا معاوية بن سلام أن أخاه زيد بن سلام أخبره، عن أبي سلام أنه أخبره قال‏:‏ أخبرني الحارث الأشعري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جِثيّ جهنم‏"‏‏.‏ قال رجل‏:‏ يا رسول الله، وإن صام وصلى‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم، وإن صام وصلى، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله‏"‏‏.‏

وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ من سورة البقرة ‏[‏الآية‏:‏ 21‏]‏؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ‏}‏أي‏:‏ إنما جعلناكم هكذا أمة وسطا عُدولا خيارا، مشهودا بعدالتكم عند جميع الأمم، لتكونوا يوم القيامة ‏{‏شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ‏}‏ لأن جميع الأمم معترفة يومئذ بسيادتها وفضلها على كل أمة سواها؛ فلهذا تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة، في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم، والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلغها ذلك‏.‏ وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏، وذكرنا حديث نوح وأمته بما أغنى عن إعادته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ‏}‏ أي‏:‏ قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها، وأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض، وطاعة ما أوجب، وترك ما حرم‏.‏ ومن أهم ذلك إقامُ الصلاة وإيتاءُ الزكاة، وهو الإحسان إلى خلق الله، بما أوجب، للفقير على الغني، من إخراج جزء نزر من ماله في السَّنة للضعفاء والمحاويج، كما تقدم بيانه وتفصيله في آية الزكاة من سورة ‏"‏التوبة‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ اعتضدوا بالله ، واستعينوا به، وتوكلوا عليه، وتَأيَّدوا به، ‏{‏هُوَ مَوْلاكُمْ‏}‏ أي‏:‏ حافظكم وناصركم ومُظفركُم على أعدائكم، ‏{‏فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ‏}‏ يعني‏:‏ ‏[‏نعم‏]‏ الولي ونعم الناصر من الأعداء‏.‏

قال وُهَيْب بن الورد‏:‏ يقول الله تعالى‏:‏ ابن آدم، اذكرني إذا غضبتَ أذكرك إذا غضبتُ، فلا أمحقك فيمن أمحق، وإذا ظُلمتَ فاصبر، وارض بنصرتي، فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

والله تعالى أعلم وله الحمد والمنة، والثناء الحسن والنعمة، وأسأله التوفيق والعصمة، في سائر الأفعال والأقوال‏.‏

هذا آخر تفسير سورة ‏"‏الحج‏"‏، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وشرف وكرم، ورضي الله تعالى عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين‏.‏